فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} عطف على جملة: {فأعرض عنهم} [الأنعام: 68] أو على جملة: {وما على الذين يتّقون من حسابهم من شيء} [الأنعام: 69].
وهذا حكم آخر غير حكم الإعراض عن الخائضين في آيات الله ولذلك عطف عليه.
وأتي بموصول وصلة أخرى فليس ذلك إظهارًا في مقام الإضمار.
و{ذرْ} فعل أمر.
قيل: لم يرد له ماض ولا مصدر ولا اسم فاعل ولا اسم مفعول.
فتصاريفه هذه مماتة في الاستعمال استغناء عنها بأمثالها من مادّة ترك تجنّبًا للثقل واستعملوا مضارعه والأمر منه.
وجعله علماء التصريف مثالًا واويًا لأنَّهم وجدوه محذوف أحد الأصول، ووجدوه جاريًا على نحو يَعِد ويَرث فجزموا بأنّ المحذوف منه الفاء وأنَّها واو.
وإنَّما حذفت في نحو ذَرْ ودَعْ مع أنَّها مفتوحة العين اتِّباعًا للاستعمال، وهو حذف تخفيف لا حذف دفع ثقل، بخلاف حذف يَعِد ويَرث.
ومعنى: (ذَر) اترك، أي لا تخالط.
وهو هنا مجاز في عدم الاهتمام بهم وقلَّة الاكتراث باستهزائهم كقوله تعالى: {ذَرْني ومن خلقتُ وحيدًا} [المدثر: 11]، وقوله: {فذرني ومن يكذّب بهذا الحديث}، وقول طرفة:
فذَرْنِي وخُلْقي إنَّنِي لَك شاكر ** ولو حلّ بيتِي نَائِيًا عند ضَرْغد

أي لا تبال بهم ولا تهتمّ بضلالهم المستمرّ ولا تشغل قلبك بهم فالتذكير بالقرآن شامل لهم، أو لا تعبأ بهم وذكّرهم به، أي لا يصدّك سوء استجابتهم عن إعادة تذكيرهم.
والدّين في قوله: {اتَّخذوا دينهم} يجوز أن يكون بمعنى الملَّة، أي مايتديَّنون به وينتحلونه ويتقرّبون به إلى الله، كقول النابغة:
مجلّتهم ذات الإله ودينُهم ** قَويم فما يرجُون غيرَ العَوَاقِب

أي اتَّخذُوه لعبًا ولهوًا، أي جعلوا الدين مجموع أمور هي من اللعب واللهو، أي العبث واللهو عند الأصنام في مواسمها، والمكاء والتصدية عند الكعبة على أحد التفسيرين في قوله تعالى: {وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاء وتصدية} [الأنفال: 35].
وإنَّما لم يقل اتَّخذوا اللهو واللعب دينًا لمكان قوله: {اتَّخذوا} فإنَّهم لم يجعلوا كلّ ما هو من اللهو واللعب دينًا لهم بل عمدوا إلى أن ينتحلوا دينًا فجمعوا له أشياء من اللعب واللهو وسمّوها دينًا.
ويجوز أن يكون المراد من الدّين العادة، كقول المُثقّب العبدي:
تَقول وقد دَرَأتُ لها وَظِينِي ** أهَذَا دينُه أبَدًا ودينِي

أي الذين دأبهم اللعب واللهو المعرضون عن الحقّ، وذلك في معاملتهم الرسول صلى الله عليه وسلم واللعب واللهو تقدّم تفسيرهما في قوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلاّ لعب ولهو} في هذه السورة [32].
والذين اتَّخذوا دينهم لعبًا ولهوًا فريق عُرفوا بحال هذه الصلة واختصّت بهم، فهم غير المراد من الذين يخوضون في الآيات بل بينهم وبين الذين يخوضون في الآيات؛ فيجوز أن يكون المراد بهم المشركين كلَّهم بناء على تفسير الدين بالملَّة والنِّحلة فهم أعمّ من الذين يخوضون فبينهم العموم والخصوص المطلق.
وهذا يناسب تفسير {ذَرْ} بمعنى عدم الاكتراث بهم وبدينهم لقصد عدم اليأس من إيمانهم أو لزيادة التسجيل عليهم، أي وذكِّرْهم بالقرآن، ويجوز أن يكون المراد بهم فريقًا من المشركين سفهاء اتَّخذوا دأبهم اللعب واللهو، بناء على تفسير الدين بمعنى العادة فبينهم وبين الذين يخوضون العموم والخصوص الوجهي.
{وغَرّتْهم} أي خدعتهم الحياة الدنيا وظنّوا أنّها لا حياة بعدها وأنّ نعيمها دائم لهم بطرًا منهم.
وتقدّم تفسير الغرور عند قوله تعالى: {لا يغرّنّك تقلّب الذين كفروا في البلاد} في سورة [آل عمران: 196].
وذكر الحياة هنا له موقع عظيم وهو أنّ همّهم من هذه الدنيا هو الحياة فيها لا ما يتكسب فيها من الخيرات التي تكون بها سعادة الحياة في الآخرة، أي غرّتهم الحياة الدنيا فأوهمتهم أن لا حياة بعدها وقالوا: {إن هي إلاّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} [الأنعام: 29].
والضمير المجرور في {وذكِّر به} عائد إلى القرآن لأنّ التذكير هو التذكير بالله وبالبعث وبالنعيم والعذاب.
وذلك إنَّما يكون بالقرآن فيعلم السامع أنّ ضمير الغيبة يرجع إلى ما في ذهن المخاطب من المقام، ويدل عليه قوله تعالى: {فذكِّر بالقرآن من يخاف وعيد} [ق: 45].
وحذف مفعول {ذكّر} لدلالة قوله: {وذرِ الذين اتَّخذُوا دينهم لعبًا ولهوًا} أي وذكِّرْهم به.
وقوله: {أنْ تُبْسَل نفس} يجوز أن يكون مفعولًا ثانيًا لِ {ذكّرْ} وهو الأظهر، أي ذكِّرْهم به إبسال نفس بما كسبت، فإنّ التذكير يتعدّى إلى مفعولين من باب أعطى لأنّ أصل فعله المجرّد يتعدّى إلى مفعول فهو بالتضعيف يتعدّى إلى مفعولين هما هم و{أن تبسل نفس}.
وخُصّ هذا المصدر من بين الأحداث المذكّر بها لما فيه من التهويل.
ويجوز أن يكون {أن تُبْسل} على تقدير لام الجرّ تعليلًا للتذكير، فهو كالمفعول لأجله فيتعيّن تقدير لا النافية بعد لام التعليل المحذوفة.
والتقدير: لِئلاّ تبسل نفس، كقوله تعالى: {يبيّن الله لكم أن تضلّوا}، وقد تقدّم في آخر سورة [النساء: 176].
وجوّز فيه غير ذلك ولم أكن منه على ثلج.
ووقع لفظ (نفس) وهو نكرة في سياق الإثبات وقصد به العموم بقرينة مقام الموعظة، كقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْس ما قدّمَتْ وأخَّرَتْ} [الأنفطار: 5] أي كلّ نفس علمت نفس ما أحْضَرَتْ، أي كلّ نفس.
والإبسال: الإسلام إلى العذاب، وقيل: السجنُ والارتهان، وقد ورد في كلامهم بالمعنيين وهما صالحان هنا.
وأصله من البَسْل وهو المنع والحرام.
قال ضمرة النهشلي:
بَكَرَتْ تَلُومُكَ بعد وَهْن في النَّدى ** بَسْل عليككِ مَلاَمَتِي وعِتَابِي

وأمَّا الإبسال بمعنى الإسلام فقد جاء فيه قول عوف بن الأحوص الكلابي:
وإبْسَالِي بَنِيّ بغير جُرْم ** بَعَوْنَاهُ ولا بِدَم مُرَاق

ومعنى: {بما كسبت} بما جنت.
فهو كسب الشرّ بقرينة {تبسل}.
وجملة: {ليس لها من دون الله} إلخ في موضع الحال من {نفس} لعموم {نفس}، أو في موضع الصفة نظرًا لكون لفظه مفردًا.
والوليّ: الناصر.
والشفيع: الطالب للعفو عن الجاني لمكانة له عند من بيده العقاب.
وقد تقدّم الولي عند قوله تعالى: {قُلْ أغير الله أتَّخِذُ ولِيًّا} في هذه السورة [14]، والشفاعة عند قوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل} في سورة [البقرة: 48].
وجملة: {وإنْ تعدل كلّ عدل لا يؤخذ منها} عطف على جملة {ليس لها من دون الله وليّ ولا شفيع}.
و{تَعْدلْ} مضارع عَدَل إذا فدى شيئًا بشيء وقدّره به.
فالفداء يسمَّى العدل كما تقدّم في قوله تعالى: {ولا يؤخذ منها عدل} في سورة [البقرة: 48].
وجيء في الشرط بإنْ المفيدة عدم تحقّق حصول الشرط لأنّ هذا الشرط مفروض كما يفرض المحال.
والعدْل في قوله: {كلّ عدْل} مصدر عدل المتقدّم.
وهو مصدره القياسي فيكون {كلّ} منصوبًا على المفعولية المطلقة كما في الكشاف، أي وإن تُعط كلّ عطاء للفداء لا يقبل عطاؤها، ولا يجوز أن يكون مفعولًا به ل {تعدل} لأنّ فعل (عَدل) يتعدّى للعوض بالباء وإنَّما يتعدّى بنفسه للمعوّض وليس هو المقصود هنا.
فلذلك منع في الكشاف أن يكون {كلّ عدل} مفعولًا به، وهو تدقيق.
و{كُلّ} هنا مجاز في الكثرة إذ ليس للعدل، أي للفداء حصر حتّى يحاط به كلّه.
وقد تقدّم استعمال (كلّ) بمعنى الكثرة وهو مجاز شائع عند قوله تعالى: {ولئِن أتَيتَ الذين أوتوا الكتاب بكلّ آية} في سورة [البقرة: 145].
وقوله: {لا يؤخذ منها} أي لا يؤخذ منها ما تعدل به.
فقوله: {منها} هو نائب الفاعل ل {يؤخذ}.
وليس في {يؤخذ} ضمير العدل لأنَّك قد علمت أنّ العدل هنا بمعنى المصدر، فلا يسند إليه الأخذ كما في الكشاف، فقد نزّل فعل الأخذ منزلة اللازم ولم يقدّر له مفعول كأنَّه قيل: لا يؤخذ منها أخْذ.
والمعنى لا يؤخذ منها شيء.
وقد جمعت الآية جميع ما تعارف الناس التخلّص به من القهر والغلب، وهو الناصر والشفيع والفدية.
فهي كقوله تعالى: {ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} في سورة [البقرة: 48]
وجملة: {أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا} مستأنفة استئنافًا بيانيًا لأنّ الكلام يثير سؤال سائل يقول: فما حال الذين اتّخذوا دينهم لعبًا ولهوًا من حال النفوس التي تُبْسَل بما كسبت، فأجيب بأنّ أولئك هم الذين أبسلوا بما كسبوا، فتكون الإشارة إلى الموصول بما له من الصلة، والتعريف للجزأين أفادَ القصر، أي أولئك هم المبسَلُون لا غيرهم.
وهو قصر مبالغة لأنّ إبسالهم هو أشدّ إبسال يقع فيه الناس فجُعل ما عداه كالمعدوم.
ويجوز أن تكون الإشارة إلى النفس في قوله: {أن تُبسل نفس} باعتبار دلالة النكرة على العموم، أي أنّ أولئك المبسَلون العادمون وليًّا وشفيعًا وقبولَ فديتهم هم الذين إبسلوا بما كسبوا، أي ذلك هو الإبسال الحقّ لا ما تعرفونه في جَرَائركم وحروبكم من الإبسال، كإبسال أبناء عوف بن الأحوص المتقدّم آنفًا في شعره، فهذا كقوله تعالى: {ذلك يوم التغابن} [التغابن: 9].
وجملة {لهم شراب من حميم} بيان لمعنى الإبسال أو بدَل اشتمال من معنى الإبسال، فلذلك فصلت.
والحميم: الماء الشديد الحرارة، ومنه الحَمة بفتح الحاء العينُ الجارية بالماء الحارّ الذي يستشفى به من أوجاع الأعضاء والدمل.
وفي الحديث: «مَثَل العالم مثل الحَمَّة يأتيها البعداء ويتركها القرباء».
وخصّ الشراب من الحميم من بين بقية أنواع العذاب المذكور من بعد للإشارة إلى أنَّهم يعطشون فلا يشربون إلاّ ماء يزيدهم حرارة على حرارة العطش.
والباء في {بما كانوا يكفرون} للسببية، و(ما) مصدرية.
وزيد فعل (كان) ليدلّ على تمكّن الكفر منهم واستمرارهم عليه لأنّ فعل مادّة الكَوْن تدلّ على الوجود، فالإخبار به عن شيء مخبَر عنه بِغيره أو موصوف بغيره لا يفيد فائدة الأوصاف سوى أنَّه أفاد الوجود في الزمن الماضي، وذلك مستعمل في التمكّن. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}.
إنها جولة لتقرير المفاصلة التي انتهت بها الموجة السابقة؛ فقوم النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين كذبوا بما جاءهم به- وهو الحق- ومن ثم انفصل ما بينه وبين قومه وانبتَّ؛ وأُمر أن يفاصلهم فيعلن إليهم أنه ليس عليهم بوكيل، وأنه يتركهم لمصيرهم الذي لابد آتٍ، وأمر أن يعرض عنهم فلا يجالسهم متى رآهم يخوضون في الدين، ويتخذونه لعبًا ولهوًا، ولا يوقرونه التوقير الواجب للدين، وأمر- مع ذلك- أن يذكرهم ويحذرهم ويبلغهم وينذرهم، ولكن على أنه وإياهم- وهم قومه- فريقان مختلفان، وأمتان متميزتان.. فلا قوم ولا جنس ولا عشيرة ولا أهل في الإسلام.. إنما هو الدين الذي يربط ما بين الناس أو يفصم.. وإنما هي العقيدة التي تجمع بين الناس أو تفرق. وحين يوجد أساس الدين توجد تلك الروابط الأخرى. وحين تنفصم هذه العروة تفصم الروابط والصلات.
وهذه هي الخلاصة المجملة لهذه الموجة من السياق.
{وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون}..
والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيه، ويعطي المؤمنين من ورائه، الثقة التي تملأ القلب بالطمأنينة. الثقة بالحق- ولو كذب به قومه وأصروا على التكذيب- فما هم بالحكم في هذا الأمر، إنما كلمة الفصل فيه لله سبحانه. وهو يقرر أنه الحق. وأن لا قيمة ولا وزن لتكذيب القوم!
ثم يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من قومه وينفض منهم يده، وأن يعلنهم بهذه المفاصلة، ويعلمهم أنه لا يملك لهم شيئًا؛ وأنه ليس حارسًا عليهم ولا موكلًا بهم بعد البلاغ، ولا مكلفًا أن يهدي قلوبهم- فليس هذا من شأن الرسول- ومتى أبلغهم ما معه من الحق، فقد انتهى بينه وبينهم الأمر؛ وأنه يخلي بينهم وبين المصير الذي لابد أن ينتهي إليه أمرهم. فإن لكل نبأ مستقرًا ينتهي إليه ويستقر عنده. وعندئذ يعلمون ما سيكون!